د . حسن أوريد
يرى بعض الملاحظين الفرنسيين أن المبادرة المشتركة ما بين المملكة العربية السعودية وفرنسا، التي احتضنتها الأمم المتحدة نهاية شهر يوليو، تحت عنوان حل الدولتين برئاسة كل من وزير خارجية المملكة العربية السعودية، سمو الأمير فيصل بن فرحان ووزير خارجية فرنسا جان نويل بارو، إجراء متأخر ورمزي. والحقيقة أن المؤتمر الدولي حول حل الدولتين برعاية كل من المملكة العربية السعودية وفرنسا، اختراق دبلوماسي، على ثلاثة أزمنة، الزمن الراهن بالمناداة بوقف الحرب في غزة، ورفع الحصار لتوزيع المساعدات، وإطلاق سراح الأسرى، والزمن المتوسط، من خلال تبني خطة الإعمار العربية الإسلامية، وأخيرا الزمن الثالث بحل الدولتين. وبتعبير آخر، حل الدولتين حلقة من حزمة مبادرات لوقف الاحتقان وبناء الثقة.
لم تنبن المبادرة من فراغ، إذ تبعث كثيرا من الرؤى التي من شأنها وضع حد للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، بالاستناد إلى الشرعية الدولية، والإحالة إلى المبادرة العربية التي تم تبنيها في القمة العربية لبيروت 2002، بيد أن الذي أضفى على المبادرة صدقية، هو وزن المملكة العربية السعودية وثقلها، على المستوى العربي والإسلامي والدولي، وسياسة الاعتدال التي اتسمت بها دبلوماسيتها على الدوام، يضاف إلى ذلك، من الجانب الفرنسي، ما يعرف بالسياسة العربية لفرنسا، و مسؤوليتها التاريخية والأخلاقية بالنظر لماضيها الاستعماري.
استفردت الولايات المتحدة بملف النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، منذ اتفاق أسلو (1993)، واعتمدت كمرجعية للحل الأرض مقابل السلام، و ظهرت بصفتها وسيطا نزيها، لكن الإدارة الأميركية الحالية، هي أبعد ما تكون عن هذه المرجعية، وأعلنت على لسان سفيرها في إسرائيل أنها لا تعد تؤمن بقيام دولة فلسطينية، وتخلت عن دورها كوسيط نزيه منذ أن نقلت سفارتها من تل أبيب إلى القدس سنة 2017. المرجعية التي تأتمّ بها واشنطن هي اتفاق أبراهام، أي تطبيع الدول العربية مع إسرائيل من دون ربط ذلك بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وفق رؤية تُغلب الجانب الاقتصادي الذي من شأنه أن يُذوب، نظريا، لاعتبارات إيديولوجية، لكن المعنيين الأوائل بالأمر، وهم الفلسطينيون رفضوا على لسان السلطة الفلسطينية ما سُمي صفقة القرن. ورغم توسع النواة الأولى لاتفاق أبراهام ما بين إسرائيل والإمارات والبحرين (أغسطس 2020) إلى كل من السودان والمغرب، فإن إدارة ترامب وحكومة نتنياهو تعِيان أن الاتفاق يظل مهزوزا من دون المملكة العربية السعودية، وقد عبرت المملكة العربية السعودية أن أي علاقة طبيعية مع إسرائيل رهين بقيام دولة فلسطين، أو حل الدولتين.
يغدو اتفاق أبراهام موضع تساؤل بالنظر إلى التحولات التي أفرزتها الحرب على غزة. أما الرؤية المثالية والرومانسية لعلاقات اقتصادية وتجارية بين إسرائيل ودول العالم العربي، فقد اهتزت مع الفظائع المرتكبة من قِبل إسرائيل في غزة، ومنها على الخصوص فصل التجويع المروع وفرض الحصار، ومنع توزيع المساعدات أو محاصرتها. سيكون من الصعب القفز على صور المأساة التي سكنت وجدان الشعوب من أجل “العقلانية الاقتصادية” وحدها.
لذلك تعتبر المبادرة السعودية الفرنسية أهم عرض من أجل وضع حد للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، وذلك بجعل الحصان قبل العربة، وهي حل النزاع أولا من أجل علاقات طبيعية وتعاون مثمر، على خلاف المقاربة التي يتبناها اتفاق أبراهام، بجعل العربة قبل الحصان.
أهمية المبادرة السعودية الفرنسية هي في الحشد الدولي الكبير الذي لقيته فور إطلاقها، من قِبل دول وازنة، وهي مرشحة لأن تحصد دعما أكبر في إطار ما دعت له من دينامية دبلوماسية، أي أن المبادرة ليس مجرد إعلان، ولكنها تندرج في العمل الدؤوب من خلال لجان وفرق عمل.
بيد أن أهمية المبادرة لا تقتصر على النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، إذ من شأنها إرساء قواعد جديدة في العلاقات الدولية غير منطق القوة، ومن شأنها أن تبعث روحا جديدة في الأمم المتحدة، وتحي الأمل من أن الكرة الأرضية مِلك للبشرية، وأن ضمان العيش المشترك رهين بالأخذ بقواعد متعارف حولها، ولا يمكن أن يرتهن كلية للقوة أو ضرب الأعراف الدولية عرض الحائط. وإلى ذلك تعزز مبادرة حل الدولتين الدور الإقليمي للمملكة العربية السعودية على مستوى العالم العربي، وهو دور محط إجماع.








